بات الموظف مهدي محمد زيو واحداً من الثوار الليبيين دون أن يتوقع ذلك، بعد أن كانت مشاهد قمع الثوار كفيلة بتحريك مشاعره الوطنية وجعله على استعداد للتضحية بنفسه في سبيل الوطن، حتى مات فعلا في سبيله.
رغم أنه لم يكن يتخيل يوماً ما أن يصبح واحداً من الأبطال الثوريين، بعدما تقدم به السن وأصبح في التاسعة والأربعين من العمر، مع إصابته بمرض السكري، وطبيعة عمله في إحدى شركات النفط الحكومية، إلا أن المشاهد الدموية التي كان يراها الموظف الليبي مهدي محمد زيو، يومياً لما يتعرض له المحتجون الشبان المطالبون برحيل الزعيم الليبي معمر القذافي، في مدينته بنغازي، كانت كفيلة بتحريك مشاعر الوطنية الحقيقية بداخله وجعله على استعداد للتضحية بنفسه في سبيل الوطن.

تفاصيل مثيرة في اللحظات الأخيرة من حياة زيو ألقت عليها الضوء اليوم صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، حيث استهلت حديثها بالقول إن زيو كان متفرغاً على مدار الأيام القليلة الماضية لحمل جثث فتيان في سن المراهقة من أمام قاعدة أمنية وسط المدينة، حيث كانت ميليشيات القذافي تقوم بإطلاق النار على المتظاهرين الشبان.

وأشارت إلى أنه كان يذهب يومياً مع مئات آخرين إلى المقابر لدفن هؤلاء الشبان. وقد بدأ الغضب ينمو بداخله يوماً بعد الآخر، حتى اتخذ قراراً بأن يواصل انتفاضته مع جموع الشعب الليبي حتى الرمق الأخير، على حسب ما أفاد أفراد أسرته وأصدقاؤه وشهود عيان.  

وأوردت الصحيفة عن مجموعة من شهود العيان قولهم إن زيو نزل على سلم البناية التي يقيم بها في صباح يوم العشرين من شهر شباط- فبراير الجاري وهو يحمل على كتفه اسطوانة غاز. ثم قام بوضع أسطوانتين بداخل صندوق سيارته، جنباً إلى جنب مع علبة من القصدير مملوءة بالبارود. وتوجه بعدها إلى القاعدة الأمنية، ثم أومض بعدها بعلامة النصر للشباب المحتج بالخارج وضغط على دواسة البنزين.

ولم تكد تمر بضعة ثوان حتى أطلقت قوات الأمن التابعة للقذافي وابلاً من الطلقات النارية على سيارته السوداء، ليسفر عن ذلك انفجار قوي، وفقاً لما ذكره شهود عيان. وأحدث الإنفجار حفرة في البوابة الأمامية للقاعدة، وهو ما أتاح فرصة الدخول للعشرات من المحتجين الشبان والجنود الذين انشقوا. وقد فازت المعارضة في تلك الليلة بالمعركة الخاصة بالاستحواذ على القاعدة، وبنغازي، مع تراجع قوات القذافي.   

وبعد مرور أكثر من أسبوع، ظلت بنغازي مركزاً لمقاومة القذافي، المتشبث بالسلطة منذ 41 عاماً في العاصمة، طرابلس. وهنا، أكدت الصحيفة أن وجه زيو بات رمزاً للشجاعة بالنسبة لتلك الانتفاضة الشبابية، سيما بعد أن بدأ ينتشر فيديو مصور للحظة انفجار سيارته في جميع أنحاء المدينة، وينتقل من هاتف محمول إلى آخر.

ومضت الصحيفة تنقل عن شاب يدعى يوسف صلاح (21 عاماً)، من أمام البناية التي كان يقيم بها زيو، التي أُطلِق عليها "بناية الشهيد"، قوله: "ما فعله (زيو) ساهم في إتاحة فرصة العيش والحياة لكثيرين". وقال أيضاً إنه كان محبوساً بداخل القاعدة في ذلك اليوم، وأنه كان يتظاهر ويقذف بالحجارة عندما ألقت قوات الأمن القبض عليه. وأشار إلى أنه كان يتعرض في كل ساعة للركل واللكم والتهديد بالقتل. وأوضح أنه شارك في التظاهرات للإحتجاج على وفاة والده مقتولاًَ في أحد السجون.

هذا ولا تزال الصدمة مهيمنة على أرملة زيو، التي تدعى سميرة عوض نوبوس (44 عاماً)، والتي تحدثت بصبر مع الصحيفة عن السنوات الإحدى والعشرين الجميلة التي قضتها مع زوجها، وقالت: "لا أزال غير مصدقة حتى الآن. فقد كان زوجي شخصاً عادياً محباً للحياة. ورغم أني فخورة به للغاية، إلا أني في غاية الحزن. لكن هذا هو قدره".   
    
أما ابنتاه الصغيرتان فتشاركا منذ وفاته في التظاهرات التي تقام باستمرار في الساحة المواجهة لقاعة المحكمة الرئيسية في بنغازي، لكي يخبرا العالم بالتضحية التي قدمها والدهما. ونقلت الصحيفة عن إحداهما، وتدعى زهور (18 عاماً)، قولها: "هذه كارثة بالنسبة لي. فقد كنا قريبين جداً من بعضنا البعض، كما أنه كان يحب الحياة كثيراً". 

ثم ختمت واشنطن بوست بنقلها عن صديق مقرب من زيو، يدعى محمد عبد الحفيظ (52 عاماً)، قوله: "كان يخبرني بأن القمع سينتهي عما قريب. وكان يستخدم تلك الانتفاضة لإظهار شجاعته والمشاعر التي يكنها بداخله تجاه هذا البلد".